فصل: ** رعُفَ يَرعُف، رَعْفًا ورُعافًا، فهو راعِف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معجم اللغة العربية المعاصرة



.تفسير الآيات (33- 35):

{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)}
وقوله تعالى: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} إما مفعولٌ لهُ أي فعلَ ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ فائدةَ ما ذُكرَ من البسطِ والتمهيدِ وإخراجِ الماءِ والمَرْعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المرادَ بالمَرْعى ما يعمُّ ما يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ. وقيلَ: مصدرٌ مؤكدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من غير لفظِه فإنَّ قولَه تعالَى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} في معنى متَّع بذلكَ وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى} أي الداهيةُ العُظمى التي تطمُّ على سائرِ الطاماتِ أي تعلُوها وتغلبُها وهي القيامةُ أو النفخةُ الثانيةُ وقيلَ: هي الساعةُ التي يُساقُ فيها الخَلائقُ إلى محشرِهم وقيلَ: التي يُساقُ فيها أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ شروعٌ في بيانِ أحوالِ معادِهم إثرَ بيانِ أحوالِ معاشِهم بقولِه تعالى: {متاعا لَّكُمْ} الخ، والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدَها على ما قبلَها عما قليلٍ كما ينبىءُ عنه لفظُ المتاعِ {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى} قيلَ: هو بدلٌ من إذَا جاءتْ والأظهرُ أنه منصوبٌ بأَعْنِي كما قيلَ تفسيراً للطامةِ الكُبرى فإن الإبدالَ منها بالظرف المحضِ مما يُوهن تعلقَها بالجوابِ ويجوزُ أن يكونَ بدلاً من الطامةِ الكُبرى مفتوحاً لإضافتِه إلى الفعلِ على رأي الكوفيينَ أي يتذكرُ فيه كلُّ أحدٍ ما عملَهُ من خيرٍ أو شرَ بأنْ يشاهدَهُ مدوناً في صحيفةِ أعمالِه وقد كانَ نسيَهُ من فرطِ الغفلةِ وطولِ الأمدِ كقولِه تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} ويجوزُ أنْ تكونَ ما مصدريةً.

.تفسير الآيات (36- 41):

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
{وَبُرّزَتِ الجحيم} عطفٌ على جاءتْ أي أظهرتْ إظهاراً بيناً لا يَخْفى على أحدٍ {لِمَن يرى} كائناً من كانَ. يُروى أنه يكشفُ عنها فتتلظَّى فيراهَا كلُّ ذي بصرٍ وقرئ: {وبُرِزَتْ} بالتخفيفِ ولمن رَأَى ولمن تَرَى على أن فيهِ ضميرَ الجحيمِ كما في قولِه تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وعلى أنه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أي لمَنْ تراهُ من الكفارِ وقولُه تعالَى: {فَأَمَّا مَن طغى} الخ، جوابُ فإذَا جاءتْ على طريقةِ قولِه تعالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} الآيةَ، وقيلَ: هُو تفصيلٌ للجوابِ المحذوفِ تقديرُه انقسمِ الراؤونَ قسمينِ فأمَّا من الخ، والذي تستدعيهِ فخامةُ التنزيلِ ويقتضيه مقامُ التهويلِ أنَّ الجوابَ المحذوفَ كانَ من عظائمِ الشؤونِ ما لَم تُشاهِدْهُ العيونُ كما مرَّ في قولِه تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} أي فأما من عَتا وتمردَ عن الطاعةِ وجاوزَ الحدَّ في العصيانِ {وَءَاثَرَ الحياة الدنيا} الفانيةَ التي هي على جناحِ الفواتِ فانهمكَ فيما متعَ به فيهَا ولم يستعدَّ للحياةِ الأخرويةِ الأبديةِ بالإيمانِ والطاعةِ {فَإِنَّ الجحيم} التي ذُكِرَ شأنُها {هِىَ المأوى} أي هيَ مأواهُ واللامُ سادَّةٌ مسدَّ الإضافةِ للعلمِ بأن صاحبَ المَأْوى هو الطاغِي كما في قولِكَ: غُضَّ الطَّرْفَ، ودخولُ اللامِ في المَأوى والطرفِ للتعريفِ لأنهما معروفانِ وهيَ إما ضميرُ فصلٍ أو مبتدأٌ. قيلَ: نزلتْ الآيةُ في النضرِ وأبيهِ الحارثِ المشهورينِ بالغُلوِّ في الكُفرِ والطغيانِ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} أيْ مقامَهُ بين يَدَيْ مالكِ أمرِه يومَ الطامةِ الكُبرَى يومَ يتذكرُ الإنسانُ ما سعَى {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} عن الميلِ إليهِ بحكمِ الجبلةِ البشريةِ ولم يعتدَّ بمتاعِ الحياةِ الدُّنيا وزهرتِها ولم يغترَّ بزخارفِها وزينتِها علماً منه بوخامة عاقبتِها.
{فَإِنَّ الجنة هي المأوى} لهُ لا غيرُهَا وقيلَ: نزلتْ الآيتانِ في أبِي عزيزِ بنِ عميرٍ ومصعب بنِ عميرٍ وقد قتلَ مصعبٌ أخاهُ أبا عزيزٍ يومَ أحدٍ ووقَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى استُشهدَ رضيَ الله عنْهُ هذا وقد قيلَ: جوابُ إذَا مَا يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} الخ، أيْ فإذَا جاءتِ الطامةُ الكُبْرى يتذكرُ الإنسانُ ما سَعَى على طريقةِ قولِه تعالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} فيكونُ قولُه تعالَى: {وَبُرّزَتِ الجحيم} عطفاً عليهِ، وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ، أو حالاً من الإنسانِ بإضمارِ قدْ، أو بدونِه على اختلافِ الرأيينِ، ولمنْ يَرَى مغنٍ عن العائدِ. وقولُه تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى} الخ، تفصيلاً لحالَيْ الإنسانِ الذي يتذكرُ ما سَعَى وتقسيماً لهُ بحسبِ أعمالِه إلى القسمينِ المذكورينِ.

.تفسير الآيات (42- 45):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} مَتَى إرساؤُها أي إقامتُها يريدونَ متى يقيمُها الله تعالَى ويُثبتُها ويُكَوِّنُها وقيل: أيانَ مُنتهاهَا ومُستقرهَا كما أنَّ مَرسى السفينةِ حيثُ تنتهي إليهِ وتستقرُّ فيهِ. وقولُه تعالَى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} إنكارٌ وردٌّ لسؤالِ المشركينَ عنْهَا أيْ في أيِّ شيءٍ أنتَ مِنْ أنْ تذكرَ لهُم وقتَها وتعلمهم بهِ حَتَّى يسألُونكَ بيانَها، كقولِه تعالَى: {يَسْئَلُونَكَ كَأنَّكَ حَفِىٌ عَنْهَا} أي ما أنتَ من ذِكْراهَا لهُم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ علمكَ به وأنَّى لكَ ذلكَ وهو مما استأثرَ بعلمه علامُ الغيوبِ ومن قال بصدد التعليل فإنَّ ذكرَها لا يزيدُهم إلا غياً فقد نَأَى عن الحقِّ وقيلَ: فيمَ إنكارٌ لسؤالهم وما بعدَهُ من الاستئنافِ تعليلٌ للإنكار وبيانٌ لبطلان السؤالِ أيْ فيمَ هذا السؤالُ ثمَّ ابتُدِىءَ فقيلَ: أنتَ من ذِكرَاها، أي إرسالُك وأنتَ خاتمُ الأنبياءِ المبعوثُ في نسيم الساعةِ علامةٌ من علاماتِها، ودليلٌ يدُلُّهم على العلمِ بوقُوعِها عن قريبٍ فحسبُهم هذه المرتبةُ من العلمِ فمَعْنى قولِه تعالى: {إلى رَبّكَ منتهاها} على هذا الوجهِ إليهِ تعالَى يرجعُ مُنْتهى علمِها أيْ علمُها بكُنهِها وتفاصيلُ أمرِها وقتَ وقوعِها لا إلى أحدٍ غيرِه وإنما وظيفتُهم أنْ يعلموا باقترابِها ومُشارفتِها، وقدْ حصلَ لهم ذلكَ بمبعثكَ، فما مَعْنى سؤالِهم عنها بعدَ ذلك. وأمَّا على الوجهِ الأولِ فمعناهُ إليهِ تعالَى انتهاءُ علمِها ليسَ لأحدٍ منه شيءٌ ما كائناً من كانَ فلأيِّ شيءٍ يسألونَكَ عنها.
وقولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} على الوجه الأولِ تقريرٌ لما قبلَهُ من قوله تعالى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} وتحقيقٌ لما هُو المرادُ منه وبيانٌ لوظيفتِه عليه الصلاةُ والسلامُ في ذلكَ الشأنِ فإنَّ إنكارَ كونهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في شيءٍ من ذِكراهَا مما يُوهمُ بظاهرِه أنْ ليسَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنْ يذكرَها بوجهٍ من الوجوهِ فأُزيحَ ذلكَ ببيانِ أنَّ المنفَى عنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكرُهَا لهم بتعيينِ وقتِها حسبَما كانُوا يسألونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فالمَعْنى إنما أنتَ منذرُ من يخشاهَا، وظيفتُكَ الامتثالُ بما أُمرتَ من بيانِ اقترابِها وتفصيلِ ما فيها من فنونِ الأهوالِ كما تحيطُ به خبراً، لا تعيينِ وقتِها الذي لم يُفوضْ إليكَ فما لهم يسألونَكَ عمَّا ليسَ من وظائِفكَ بيانُه. وعلى الوجهِ الثانِي هو تقريرٌ لقولِه تعالى: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} ببيانِ أنَّ إرسالَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو خاتمُ الأنبياءِ عليهم السلامُ منذرٌ بمجيءِ الساعةِ كما ينطقُ به قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: {بعثتُ أنَا والساعةَ كهاتينِ إنْ كادتْ لتسبقُني} وقرئ: {منذرٌ} بالتنوينِ وهو الأصلُ والإضافةُ تخفيفٌ صالحٌ للحالِ والاستقبالِ، فإذا أُريدَ الماضِي تعينتِ الإضافةُ. وتخصيصُ الإنذارِ بمن يخشَى مع عمومِ الدعوةِ لأنَّه المنتفعُ بهِ.

.تفسير الآية رقم (46):

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
وقولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} إما تقريرٌ وتأكيدٌ لما ينبىءُ عنه الإنذارُ من سرعة مجيءِ المُنذَر بهِ، لاسيما على الوجهِ الثَّانِي، أيْ كأنَّهم يومَ يَرَونها لم يلبثُوا بعدَ الإنذارِ بها إلا عشيةَ يومٍ واحدٍ أو ضحاهُ فلما تُركَ اليومُ أضيفَ ضُحاه إلى عشيتِه، وإمَّا ردٌّ لمَا أدمجُوه في سؤالِهم فإنَّهم كانُوا يسألونَ عنها بطريق الاستبطاءِ مستعجلينَ بها وإنْ كانَ على نهجِ الاستهزاءِ بهَا {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} فالمَعْنى كأنَّهم يومَ يَرَونها لم يلبثُوا بعدَ الإنذارِ أو بعدَ الوعيدِ بها إلا عشيةً أو ضُحاها. واعتبارُ كونِ اللبثِ في الدنيا أو القُبورِ لا يقتضيه المقامُ وإنَّما الذي يقتضيهِ اعتبارُ كونِه بعدَ الإنذارَ أو بعدَ الوعيدِ تحقيقاً للإنذارِ وردًّا لاستبطائِهم. والجملةُ على الأولِ حالٌ من الموصولِ فإنَّه على تقديرَيْ الإضافةِ وعدمِها مفعولٌ لمنذرُ كما أنَّ قولَه تعالى: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} حالٌ من ضميرِ المفعولِ في يحشرُهم أي يحشرُهم مشبهينَ بمن لم يلبثْ في الدُّنيا إلا ساعةً خلا أن الشبهَ هناكَ في الأحوالِ الظاهرةِ من الزيِّ والهيئةِ وفيمَا نحنُ فيه في الاعتقاد كأنَّه قيلَ: تنذرُهم مشبهينَ يومَ يَرَونها في الاعتقادِ بمن لم يلبثْ بعد الإنذارِ بها إلا تلك المدةَ اليسيرةَ، وعلى الثانِي مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ والنازعاتِ كانَ ممن حبسَهُ الله عزَّ وجلَّ في القبرِ والقيامةِ حتى يدخلَ الجنةَ قدرَ صلاةٍ مكتوبةٍ». والله أعلمُ.

.سورة عبس:

.تفسير الآيات (1- 3):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)}
{عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الأعمى} رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أبيهِ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقالَ له: يا رسولَ الله أقرئْنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالَى، وكررَ ذلكَ وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالقوم فكرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعَهُ لكلامِه وعبسَ وأعرضَ عنه فنزلتْ. فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقولُ إذا رآه: «مرحباً بمن عاتبَني فيه ربِّي» ويقولُ لهُ: «هل لكَ من حاجةٍ» واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرئ: {عبَّس} بالتشديدِ للمبالغةِ وأنْ جاءَهُ علةٌ لتولَّى أو عَبَس على اختلافِ الرأيينِ أيْ لأَنْ جاءَهُ الأعمى والتعرضُ لعنوانِ عماهُ إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالقومِ والإيذانِ باستحقاقِه بالرفقِ والرأفةِ وإمَّا لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ: تولَّى لكونِه أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقولُه تعالى: {لَعَلَّهُ يزكى} استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالَى يُدريه ذلكَ أي لعلَّه يتطهرُ بما يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكبرياءِ أو على اعتبارِ مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاةُ والسلامُ للتنبيه على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولِك: لعلَّك ستندمُ على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدَّى لتزكيتهم من الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكُّرِ أصلاً.

.تفسير الآيات (4- 12):

{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)}
وقولُه تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ} عطفٌ على يزكَّى داخلٌ معه في حكم الترجِّي. وقولُه تعالَى: {فَتَنفَعَهُ الذكرى} بالنصب على جواب لعلَّ وقرئ بالرفع عطفاً على يذكَّرُ أي أو يتذكرُ فتنفعُه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ، وقيلَ: الضميرُ في لعلَّه للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ يتزكَّى أو يذكرَ فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ {أَمَّا مَنِ استغنى} أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارفِ التي ينطوي عليها القرآنُ {فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي تتصدَّى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاةُ والسلامُ عن مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ وقرئ: {تصَّدَّى} بإدغام التاءِ في الصَّادِ وقرئ: {تُصدى} بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه {وَمَا عَلَيْكَ ألاَّ يزكى} وليسَ عليكَ بأسٌ في أنْ لا يتزكَّى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملةُ حال من ضمير تصدى وقيل: ما استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفيُ أيضاً.
{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى} أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ وخصالِ الخيرِ {وَهُوَ يخشى} أي الله تعالَى وقيلَ: يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ: يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملةُ حالٌ من فاعلِ يسعَى كمَ أنه حالٌ من فاعل جاءك {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} تتشاغلُ يقالُ: لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى. وقرئ: {تتلهى} و{تلهى} أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ، وفي تقديم ضميرِه عليه الصلاةُ والسلامُ على الفعلينِ تنبيهٌ على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه عليه الصلاةُ والسلامُ أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدَّى للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ للتعريض باهتمامه عليه الصلاةُ والسلامُ بمضمونهما، رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما عبسَ بعد ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا تصدَّى لغنى {كَلاَّ} ردعٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عما دعاهُ إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآنِ الكريمِ مبالغاً في الاهتمامِ بأمرِه على إسلامِه معرضاً بسببِ ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقولُه تعالى: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآنِ العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدَّى عليه الصلاةُ والسلامُ لهُ وتحقيقُ أنَّ شأنَهُ يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قولُه تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ وتأنيثُ الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ: الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظِ وليسَ بذلكَ فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبينِ.